البرهان في السودان- صعود للسلطة، توازنات معقدة، ومستقبل سياسي غامض.

المؤلف: د. ياسر محجوب الحسين09.12.2025
البرهان في السودان- صعود للسلطة، توازنات معقدة، ومستقبل سياسي غامض.

منذ الإطاحة بنظام حكم عمر البشير في شهر أبريل من عام 2019، بزغ نجم الفريق أول عبدالفتاح البرهان كشخصية محورية وبارزة في ساحة السياسة السودانية، وكأن الأقدار قد ساقته ليقود البلاد وسط أمواج متلاطمة من التحولات العميقة والصراعات المتفاقمة.

لقد تبوأ منصب قيادة المجلس العسكري الانتقالي عقب استقالة الفريق أول عوض بن عوف، مدعومًا بتأييد واسع النطاق من القوى السياسية التي تصدرت المشهد السياسي في تلك الحقبة، بالإضافة إلى دعم قوات الدعم السريع، والتأييد الضمني من المؤسسة العسكرية.

كانت تلك المرحلة بمثابة بداية لتوازن دقيق وهش ومعقد بين القوى العسكرية والقوى المدنية، وذلك بعد انخراطه في مفاوضات مع قوى الحرية والتغيير (قحت) بهدف تحديد ملامح المرحلة الانتقالية، إلا أن التوتر سرعان ما تصاعد بين الجانبين حول كيفية تحديد شكل المرحلة الانتقالية ومسارها.

لكن سرعان ما تفاقم التوتر بين الطرفين، لا سيما عقب فض اعتصام القيادة العامة للجيش في شهر يونيو من عام 2019، وهو الحدث الذي أثار موجة عارمة من السخط والغضب الشعبي، ولكنه في الوقت ذاته عزز من مكانة البرهان في المعادلة السياسية، وكأنه ارتقى سلم السلطة على متن أمواج متلاطمة من الأزمات المتلاحقة.

وفي شهر أغسطس من عام 2019، تقلد البرهان منصب رئيس المجلس السيادي الانتقالي، ساعيًا إلى قيادة سفينة مثقلة بالجراح وسط بحر هائج من الصراعات المحتدمة بين التيارات الإسلامية المحافظة وبين التيارات العلمانية اليسارية المرتبطة بالغرب.

إلا أن الأحوال لم تسر دائمًا وفقًا لتطلعاته، ففي شهر أكتوبر من عام 2021، قاد ما سماه "حركة تصحيح المسار"، بينما وصف خصومه تلك الخطوة بالانقلاب العسكري، حيث أطاح بحكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، مما عزز قبضته المحكمة على السلطة.

وعلى الرغم من ذلك، وجد نفسه في مواجهة ضغوط إقليمية ودولية تدعم عودة حمدوك، مما جعله يتأرجح بين القبول والرفض على الساحة الدولية. وبالرغم من اعتماده على الجيش وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، فإن التوترات الداخلية والتحديات الاقتصادية والسياسية المتراكمة جعلت موقفه أشبه ببناء مشيد على رمال متحركة، حيث يجد نفسه في توازن دقيق بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، في ظل مشهد سياسي بالغ التعقيد، ومفتوح على جميع الاحتمالات.

وتتجلى المفارقة الكبرى في أن قوات الدعم السريع، التي كانت شريكًا رئيسيًا للبرهان في السيطرة على السلطة عقب الإطاحة بالبشير، أصبحت تمثل التهديد الأكبر والأخطر له. فبعد أن أسهمت في تعزيز نفوذه العسكري والسياسي من خلال دعمها في أحداث مفصلية مثل فض الاعتصام وإجراءات تصحيح المسار أو الانقلاب العسكري بحسب توصيف خصومه، فقد انقلبت هذه القوات إلى خصم لدود، حيث يخوض الآن حربًا ضروسًا ضدها.

والأكثر إثارة للدهشة أن الحماقة التي أقدمت عليها قوات الدعم السريع في محاولتها الانقلابية التي وقعت في 15 أبريل من عام 2023، وما ارتكبته من جرائم إبادة جماعية واغتصاب وسرقة وتدمير للبنى التحتية بعد أن تحولت إلى مليشيا إجرامية، منحت البرهان فرصة سانحة وغير مسبوقة لكسب التأييد الشعبي والالتفاف حوله.

هذا الدعم والتأييد الشعبي، الذي جاء كرد فعل على الفظائع التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، زاد من طموح البرهان لقيادة البلاد ليس فقط في مرحلة ما بعد الحرب، بل أيضًا في مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية.

لكن السؤال الذي لا يزال معلقًا في الأفق هو: ما هي حظوظ الرجل في إطالة أمد هذا الوضع المعقد؟ وهل سيتمكن من تحويل هذا الالتفاف الشعبي المؤقت إلى شرعية دائمة، أم أن التحديات الداخلية والخارجية ستجعل موقفه أشبه بقارب يكافح للبقاء في عرض بحر هائج وعاصفة لا ترحم؟

في نهاية المطاف، يبقى مستقبل البرهان السياسي معلقًا على قدرته الفائقة على تحقيق توازن شبه مستحيل بين القوى المتصارعة والمتناحرة، في وقت يبدو فيه المشهد السياسي السوداني بمثابة لوحة شطرنج معقدة، تحمل كل حركة فيها في طياتها احتمالات النصر أو الهزيمة.

خلفيات وملابسات صعود البرهان

لقد وصل البرهان إلى هذا المنصب الحساس، ليصبح شخصية محورية في السودان، يجمع بين السلطات العسكرية والسياسية في خضم ظروف عصيبة ومرحلة انتقالية حرجة.

بدأت فصول هذه الأحداث باحتجاجات شعبية عارمة ضد حكم البشير الذي استمر لما يربو على ثلاثة عقود، حيث طالبت الجماهير بإسقاط نظامه جراء الأزمات الاقتصادية المتفاقمة والفساد المستشري.

وفي الحادي عشر من شهر أبريل لعام 2019، قامت اللجنة الأمنية (المشكلة من وزير الدفاع وقادة رفيعي المستوى في الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى) بالإطاحة بالبشير وتشكيل مجلس عسكري انتقالي بقيادة وزير الدفاع الفريق أول عوض بن عوف، الذي ما لبث أن استقال بعد يوم واحد فقط تحت وطأة ضغوط قوية من قائد قوات الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير التي كانت تهيمن على الشارع الغاضب آنذاك.

وعقب استقالة بن عوف، تولى البرهان، الذي كان يشغل منصب المفتش العام للجيش، قيادة المجلس العسكري الانتقالي في الثاني عشر من أبريل لعام 2019. كان البرهان يتمتع بشعبية ودعم لا يستهان به داخل أروقة الجيش، واعتبر شخصية مقبولة نسبيًا من قبل كل من قوات الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير.

خلال تلك الفترة، انطلقت مفاوضات مكثفة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير بهدف تحديد شكل المرحلة الانتقالية وهويتها. وعلى الرغم من ذلك، تصاعدت حدة التوترات بشكل ملحوظ عقب فض اعتصام القيادة العامة في الخرطوم في الثالث من يونيو لعام 2019، الأمر الذي أدى إلى مقتل العشرات من المتظاهرين وزيادة الضغط على المجلس العسكري.

وفي شهر أغسطس من عام 2019، تم التوصل إلى اتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير يقضي بتشكيل مجلس سيادي انتقالي يتألف من أحد عشر عضوًا (خمسة عسكريين وستة مدنيين) لقيادة المرحلة الانتقالية.

وفي الحادي والعشرين من شهر أغسطس لعام 2019، تم تعيين البرهان رئيسًا للمجلس السيادي الانتقالي، بينما تم تعيين عبدالله حمدوك -وهو خبير اقتصادي مدني- رئيسًا للوزراء.

وخلال المرحلة الانتقالية، كان البرهان يمثل السلطة العسكرية في السودان، بينما تولى حمدوك وحكومته المهام التنفيذية. ومع ذلك، استمرت التوترات قائمة بين العسكريين والمدنيين حول السلطة ومسار الانتقال الديمقراطي.

وفي الخامس والعشرين من شهر أكتوبر لعام 2021، قاد البرهان مسارًا تصحيحيًا أطاح بالحكومة الانتقالية عقب تصاعد الخلافات والتباينات في وجهات النظر داخل قوى الحرية والتغيير نفسها، وتدهور الأوضاع الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة. وعلى إثر ذلك، أعلن البرهان حل المجلس السيادي والحكومة وفرض حالة الطوارئ.

وبعد هذا الحدث، عاد البرهان ليتبوأ مكانة بارزة في المشهد السياسي السوداني، حيث استأثر بالسلطة بشكل فعلي وأدار شؤون البلاد بمساعدة العسكريين وقوى مدنية مناوئة لقوى الحرية والتغيير.

وعلى هذا النحو، وصل البرهان إلى موقعه الحالي كشخصية محورية في السودان، حيث يجمع بين السلطات العسكرية والسياسية في ظل ظروف بالغة الاضطراب وفي مرحلة انتقالية حساسة.

موازنة صعبة بين القوى السياسية

يواجه البرهان تحديًا جمًا في إدارة العلاقة بين التيارات السياسية المتنافسة على الساحة السودانية، حيث يسعى جاهدًا للموازنة الدقيقة بين التيار الإسلامي والتيار العلماني اليساري، دون الانحياز بشكل كامل لأي من الطرفين.

التيار الإسلامي، المتمثل في جماعات مثل حزب المؤتمر الوطني الذي كان يحكم في عهد عمر البشير، يتمتع بقوة تنظيمية راسخة وخبرة واسعة في مجال الحكم. وعلى الرغم من تراجع نفوذ هذا التيار عقب الإطاحة بالبشير، إلا أنه لا يزال يسعى جاهدًا للعودة إلى المشهد السياسي من خلال التحالفات الخفية أو العلنية مع بعض القوى العسكرية والسياسية.

إن خبرته العميقة في إدارة شؤون الدولة، وقدرته الفائقة على حشد وتعبئة القواعد الشعبية تجعلانه لاعبًا لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه، لا سيما في تحفيز المقاومة الشعبية التي أحدثت تحولًا جذريًا في مواجهة قوات الدعم السريع في الحرب الراهنة، الأمر الذي يضطر البرهان إلى التعامل معه بحذر شديد لتجنب إثارة حفيظة قواعده أو خلق توترات إضافية.

ومن جهة أخرى، فإن التيار العلماني اليساري – المتمثل في تحالفات على غرار قوى الحرية والتغيير (قحت) التي تحوّلت لاحقًا إلى (تقدم) ثم (صمود) بقيادة حمدوك- يشكل قوة ضاغطة على البرهان لتسريع وتيرة الانتقال الديمقراطي الذي يتم بموجبه عزل التيار الإسلامي بشكل كامل ونهائي.

ويحاول البرهان جاهدًا الموازنة بين العلاقة بين هذين التيارين من خلال تبني سياسة مرنة تهدف إلى إرضاء كلا الطرفين دون الارتباط التام بأي منهما.

فعلى سبيل المثال، يتعامل مع التيار الإسلامي بتحفظ شديد، حيث يسمح له بحضور محدود في المشهد السياسي دون منحه أي نفوذ كبير. وفي المقابل، يسعى إلى استيعاب بعض مطالب التيار العلماني اليساري من خلال تقديم وعود سياسية مع الحفاظ على السيطرة العسكرية على مقاليد الأمور.

تهدف هذه السياسة المرنة إلى تجنب الاصطدام المباشر مع أي من التيارين، ولكنها في الوقت نفسه تعرض البرهان لانتقادات لاذعة من كلا الجانبين، حيث يراه الإسلاميون مترددًا في دعمهم، بينما يراه العلمانيون جزءًا لا يتجزأ من نظام عسكري يعيق التحول الديمقراطي.

وفي نهاية المطاف، يبقى تحقيق التوازن من قبل البرهان بين هذه القوى السياسية بمثابة تحد جسيم، حيث يتطلب إدارة دقيقة للمصالح المتضاربة وتجنب الانحياز الكامل إلى أي طرف من الأطراف.

ويتوقف نجاحه في هذا التوازن الدقيق على قدرته على الحفاظ على دعم الجيش مع تقديم تنازلات محدودة لإرضاء القوى السياسية، ولكن أي خطأ في هذه المعادلة المعقدة قد يؤدي إلى تهديد استقرار حكمه ومستقبله السياسي برمته.

ومنذ إجراءات شهر أكتوبر لعام 2021، واجه البرهان معضلة البحث عن حاضنة سياسية لضمان استمراره في السلطة.

وتاريخيًا، لجأت الأنظمة العسكرية في السودان إلى تأسيس كيانات سياسية موالية، على غرار "الاتحاد الاشتراكي" في عهد الرئيس السابق جعفر نميري (1969 – 1985)، إلا أن تكرار هذه التجربة يواجه تحديات جسيمة بسبب التغيرات الجذرية في طبيعة القوى السياسية وكيمياء الكتلة الجماهيرية.

ولذا، قد يلجأ البرهان إلى الإدارات الأهلية والطرق الصوفية ورجال الأعمال، إلا أنها قوى غير قادرة على توفير شرعية دائمة ومستدامة.

وفي ضوء هذه المعطيات، يظل البرهان في وضع سياسي هش، ويفتقر إلى حاضنة متماسكة تضمن له الاستمرار في السلطة. أما اعتماد البرهان على الجيش كدعامة رئيسية لحكمه، حيث وفر له الحماية منذ الإطاحة بالبشير، فهو ليس ضمانة أبدية، إذ إن نظام الجيش لا يمنح قائده "شيكًا على بياض"، خاصة مع استمرار الضغوط السياسية والاقتصادية المتزايدة.

بالإضافة إلى ما سبق، فإن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، المصحوبة بتراجع قيمة الجنيه السوداني جراء ارتفاع معدلات التضخم، تجعل بقاء البرهان في السلطة أكثر صعوبة وتعقيدًا. فضعف الخدمات الأساسية يزيد من الاحتقان الشعبي، ويجعل الاحتجاجات العفوية أمرًا واردًا في أي لحظة.

كما أن القوات الأمنية نفسها قد تتأثر بالأوضاع المعيشية المتدهورة، مما قد يؤدي إلى تصدعات داخل الجيش. وفي ظل هذا الوضع الحساس، يواجه البرهان خيارين لا ثالث لهما: تقديم تنازلات سياسية لكسب الدعم الاقتصادي، أو الاستمرار في الاعتماد على الموارد الذاتية المحدودة، وهو ما يعني استمرار التدهور الاقتصادي وتزايد الغضب الشعبي.

إلا أن البرهان يحظى بدعم إقليمي من بعض الدول، وعلى رأسها جمهورية مصر العربية التي ترى في استقرار السودان مصلحة إستراتيجية عليا لها. وفي المقابل، تواجه حكومته ضغوطًا دولية كبيرة، حيث علقت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مساعداتهما، بزعم المطالبة بانتقال سلس نحو الديمقراطية.

فهل سيتمكن البرهان من المناورة ببراعة بين كل هذه الضغوط من خلال تعزيز علاقاته مع حلفائه الإقليميين، أو تقديم تنازلات سياسية محدودة لاستعادة الدعم الدولي؟

سيناريوهات مستقبل البرهان السياسي

تتراوح خيارات البرهان المتاحة بين عدة سيناريوهات، منها: تشكيل حاضنة سياسية جديدة من خلال استقطاب قوى تقليدية، ولكنه يواجه تحديات اقتصادية وسياسية تعيق نجاح هذا الخيار. أو الاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية والإذعان للتنحي عن السلطة، خاصة مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتصاعد التظاهرات الشعبية المحتملة. أو حدوث انشقاقات حادة داخل الجيش تؤدي إلى الإطاحة به، إذا ما تفاقمت الخلافات داخل المؤسسة العسكرية أو تصاعدت الآثار السلبية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الدائرة.

وخلاصة القول، فإن بقاء البرهان في السلطة رهن بقدرته الفائقة على المناورة بين هذه التحديات المتداخلة، ولكنه يواجه وضعًا بالغ الهشاشة قد يهدد مستقبله السياسي ويقوض احتمالات استقرار حكمه.

وحتى الآن، لا يبدو أن لدى البرهان أي رؤية سياسية واضحة المعالم، وإنما يتعامل مع الأزمات بردود أفعال آنية ولحظية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة